جريدة رواد الغد الثقافيه رئيسا مجلس الادارة الاستاذه نداء الرؤح الاستاذ علاء العجمي

الأحد، 29 مايو 2016

اليتيم..بقلم حسيبة طااهر..

اليتيم قصة قصيرة بقلم حسيبة طاهر
كان يزمجر جارا وراءه شكلا مقعرا إلى المصعد
الكهربائي.. كان ذلك الشكل المقوس عجوزا عديم الأمل
أثقلت كاهله خطى الأيام والسنين العجاف.. سنين الجمر
أكلت لحمه ووهّنت عظمه، و غيرت خارطة جسمه بحفر
الأخاديد العميقة ونحت التجاويف.. هذا الشبح الشاحب
الهزيل المرتعش من ألم الباركنسون، المتعب من تلاطم
أمواج الزمن وتخبطات الأيام وتقلبات المناخ.. كم عصفت
به الزوابع، وتراقصت على ظهره الأشجان.
هذا الذي كان شجرة شامخة لا تهزها الرياح.. زيتونة عتيقة
فروعها ضاربة في السماء و جذورها ثابتة في أعماق الأرض..
هذا الذي كانت تضرب جذعه فأس من فولاذ فتكسر..
أكلوا رطبه جنيا، ورموه جذعا خاويا من كل شيء إلا
من غصته والتناهيد.. إنه اليوم مهموم مذموم.. لاحول له
و لا قرار.. رأسه حبلى بالهواجس والتساؤلات: إلى أين
يجرّونه في ساعة كهذه كالكبش إلى المذبح.. كالمحكوم إلى
ساحة الإعدام؟ ما وزره؟ أي ذنب اقترفت يداه إلاّ أنه يوما قد
وهب الحياة لمن سيسحبها منه، ويرميه إلى هامشها وينساه في
رف مهمل مع الأشياء القديمة يمأه الغبار، وتغشاه الوحشة
الرهيبة.. ويزيحه عن بقعة الضوء إلى الركن المظلم من
الخشبة..؟!
ها هي المسرحية قربت من النهاية، وستسدل الستارة
السوداء دون تصفيق، وسيحال مجرا على التقاعد، ولن
يكون له بعد اليوم لا دور بطولة ولا حتى دور «كومبارس »
بائس.. لن يكون حتى متفرجا! وهو الذي كان بالأمس
الكاتب والمخرج ..
كانت السيارة تجري بسرعة في تواطئ خبيث مع من
يقودها لإيصاله للمستقر المراد.. سأل بصوت متحشرج كمن
يصعد في السماء: إلى أين نمضي يا ولدي ؟
لكن ذاك الذي كان هواه وسلواه ومنتهى مناه لم يجب
لأن سماعة سوداء سدت منافذ أذنيه، وموسيقى شيطانية عابثة
منعت عنه المسمع.
في الرواق الرمادي استقبله شخص بملامح قاسية.. ملامح
من تعوّد رؤية كل أشكال الدمار، فاكتسب مناعة ضد التأثر
والتفاعل، قال بصوت خشن مستعجل كمن تسلم بضاعة
يريد ركنها في مكانها المخصص و يستعّد لاستلام أخرى:
سريرك يا الشيخ..
استدار للوراء يستجدي عطف الزمان علّ الدهر يحن
ويغير قراره الجري الظالم، لكن الدهر كان قد مضى مسرعا
كعادته غير عابئ بمن يُسحق تحت عجلاته من ضحايا
فالموت عندما يأتي يختطف فريسته ويمضي غير عابئ ببكاء
الأيتام و نواح الثكالى والأرامل.. يئس من أمل العودة.. فقد
ضُرِب برزخٌ بينه وبين الحياة، ولا مجال للعودة.. لقد منحه
الدهر شهادة وفاة سابقة عن أوانها بدل شهادة التقدير التي
طال انتظارها ..!
استدار ليلقي نظرة على مثواه الأخير، فرأى أباه جالسا
على ذلك السرير الصدئ والأفرشة البالية في نفس الغرفة
الحزينة من دار المسنين الكئيبة ..!
ليس اليتيم من فقد أمه أو أباه، وإنّما من تخلى عنه
وَلَدُه...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.